الفيدرالية بين العراق وألمانيا وما يجب تصحيحه
في أكثر من مناسبة أكدت على أن العلاقة بين السلطة الاتحادية وسلطة إقليم كردستان هي علاقة غير صحية، ولست في هذه المقالة بصدد تشخيص مَن مِن الطرفين يتحمل مسؤولية هذه العلاقة السقيمة، وإن كنت بالتأكيد أحمّل مسؤولية ذلك كلا الطرفين، دون تحديد نسبة مسؤولية كل منهما إلى مسؤولية الآخر، أو ما إذا كانا متساويين في ذلك.
تسمية الأجزاء الفيدرالية في الدول الاتحادية اختلفت كثيرا، فهناك من سماها بـ(البلدان الاتحادية) كما في ألمانيا وغيرها، أو (البلدان) فقط، أو (الأقاليم)، أو (المناطق)، أو (المقاطعات)، أو (الكانتونات)، أو (الدول الاتحادية) كما في الولايات المتحدة الأمريكية ودول اتحادية أخرى غيرها، والتي ترجمت إلى العربية بـ(الولايات المتحدة) بدلا من (الدول المتحدة) „
أستطيع أن أقول أني عايشت كل مراحل جمهورية ألمانيا الاتحادية منذ تأسيسها بعد الحرب العالمية الثانية. صحيح إني من مواليد أواخر ١٩٤٤، وإن تأسيس جمهورية ألمانيا الاتحادية بعد سقوط النازية كان عام ١٩٤٩، حيث كنت طفلا لا أعرف شيئا عن ألمانيا، لكني عندما قدمت شابا عام ١٩٩٣ إلى ألمانيا كان ما زال كونراد آدناور هو المستشار الاتحادي، والذي كان هو أول مستشار منذ ١٩٤٩، ومن هنا أقول إني عايشت كل المرحل. وكنت دائما حريصا على متابعة أخبار ألمانيا، حتى أثناء انقطاعي عنها من عام ١٩٧٢ حتى عام ١٩٨٠ التي قضيتها في العراق قبل أن أضطر للهجرة ثانية إلى ألمانيا.
عبر كل هذه المراحل وعبر كل المستشارين، من آدناور، أيرهاد، كيزنگر، برانت، شمت، كول، شرويدر، ميركل، خمسة منهم من الاتحاد المسيحي الديمقراطي، وثلاثة منهم من الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي)، وكذلك عبر الرؤساء من الرئيس الثاني لـُـِبكه حتى الرئيس الحالي شتاينماير.
الأقاليم الفيدرالية في ألمانيا تسمى بالبلدان الاتحادية، وكان هناك أحد عشر بلدا اتحاديا قبل سقوط الجدار وتوحيد الشقين الغربي والشرقي لألمانيا في الثالث من أكتوبر لعام ١٩٩٠، وبعد التوحيد أضيف إلى البلدان الاتحادية خمسة بلدان اتحادية لألمانيا الشرقية، تسمى عادة بـ(البلدان الاتحادية الجديدة)، فأصبح عدد البلدان الاتحادية لألمانيا ستة عشر.
كانت في البداية ثلاثة أحزاب ديمقراطية، الحزبان الكبيران، المسيحي الديمقراطي والديمقراطي الاجتماعي (أو الاشتراكي باختلاف الترجمة لكلمة زوتسال Sozial بالإنگيلزي Social)، وهناك الحزب الديمقراطي الحر (الليبراليون) الذي كان يأتلف مع الحزب الفائز من الحزبين المذكورين لتشكيل الحكومة الاتحادية، ثم مع الوقت أصبحت الأحزاب الديمقراطية الألمانية خمسة، بعدما أضيف حزب الخضر، ولاحقا بعد إعادة توحيد ألمانيا حزب اليسار. فكانت بعد ذلك حكومة ائتلافية بين الديمقراطي والاجتماعي والخضر، وتارة بين الحزبين الكبيرين، كما هو الحال الآن، وهذا يسمى بالائتلاف الكبير، وتارة بين المسيحي الديمقراطي والليبراليين. أما في البلدان الاتحادية الستة عشر، فتجد كل ألوان الائتلافات الثنائية والثلاثية لتشكيل الحكومات المحلية التي تسمى بحكومات البلدان الاتحادية. فوجدنا حتى الآن رؤساء للبلدان الاتحادية (الأقاليم) من أكثر من حزب، فمنهم من الديمقراطي المسيحي، ومنهم من الديمقراطي الاجتماعي، ومنهم من الخضر، أو من حزب اليسار، أو المسيحي الاجتماعي في باڤاريا.
بعد هذه المقدمة الضرورية، أقول لم أسمع يوما عن خلاف بين الحكومة الاتحادية وحكومة من حكومات البلدان الاتحادية المسماة عندنا بالأقاليم، والتي ليس لدينا منها حتى الآن إلا إقليم واحد هو كردستان، ولم أشهد زيارة للمستشار أو المستشارة، الذي هو رئيس الحكومة الاتحادية، لبلد من البلدان الاتحادية، فيستقبله رئيس أو رئيسة حكومة ذلك البلد الاتحادي برفع العلم الاتحادي وعلم البلد الاتحادي (الإقليم) مع پروتوكولات تشبه پروتوكولات استقبال رئيس الحكومة المضيفة لرئيس حكومة أجنبية، ومنها فرش السجادة الحمراء، كما يجري في العراق.
ثبت إن التجربة الفيدرالية في العراق فيما يتعلق الأمر بكردستان حصرا، قد فشلت فشلا ذريعا، كما ثبت إن الانفصال بقطع النظر عن موقفنا منه غير ممكن التحقيق، وإن كان هو حق من حقوق الكرد.
ما الحل إذن؟ قبل كل شيء أقول لا يمكن أن نقترح حلا، إلا بعد إجراء إصلاح جذري وشامل للعملية السياسية والأحزاب السياسية، على صعيد السلطة الاتحادية، وعلى صعيد سلطة إقليم كردستان، وعلى صعيد الحكومات المحلية في المحافظات، لتكون لدينا أولا أحزاب ديمقراطية بديمقراطية حقيقية، غير فاسدة وغير دينية وغير غارقة في النزعة القومية، وغير طائفية أو منغلقة على طائفة، شيعية أو سنية. عندها يجب إعادة صياغة العلاقة بين السلطة الاتحادية وسلطة إقليم كردستان، مع الحيلولة دون تكرار التجربة عند تشكيل أقاليم أخرى. فبالنسبة للعلاقة مع إقليم كردستان حصرا، لا بد أن نملك شجاعة دراسة الخيار الكونفدرالي، لكن بشكل منصف للطرفين، للإقليم من جهة، ومن جهة أخرى لبقية العراق، أي عراق ما هو خارج إقليم كردستان، بأقاليمه التي ستتشكل، والتي يجب أن يجري تشكيلها وفق شروط صحيحة، وبتوفير المناخ المناسب، وكما ذكرنا آنفا، بعد انتهاء دور الأحزاب التي مارست تسييس الدين والطائفية السياسية والفساد المالي والعنف والإداري والولاء لدولة أجنبية، وإلا فتشكيل الأقاليم مع بقاء هذه الأحزاب واحتمال هيمنتها على سلطات الأقاليم، فضرره عشرات أضعاف ما يرتجى من نفع عبر تفعيل النظام الفيدرالي.
بعدما كتبت هذه المقالة قبل أربعة أيام في ١٧/١١/٢٠٢٠ حصل حوار بيني وبين صديقي أستاذ العلوم السياسية الدكتور الناصر دريد، وقد عاش سنوات طويلة في كردستان، وهو معروف بمناصرته للقضية الكردية، ولم أكن قد أطلعته على مقالتي هذه، فنبه إلى نقطة مهة، وهي إن الكونفدرالية لا تكون إلا بين دولتين، ولذا أقول أنا إن هذا الخيار أصبح متأخرا، إذ كان يجب طرحه برأيي بعد ٢٠٠٣، لأن كردستان كانت منفصلة عن المركز لاثنتي عشرة سنة. واتفقنا أن نتعاون في محاولة صياغة الفيدرالية المناسبة لحالتنا في العراق. في كل الأحوال لا خيار إذن لنا إلا واحد من اثنين؛ إما تبقى كردستان إقليما فيدراليا داخل جمهورية العراق الاتحادية، مع تصحيح تطبيق الفيدرالية؛ هذا التطبيق المشوه حتى الآن، لكن أيضا بحيث لا تبقى كردستان الإقليم الوحيد، وإما يذهب الكرد إلى الاستقلال. وبما إن الاستقلال كما يعرف الكرد أنفسهم مستحيل التحقيق، رغم إنه حق مشروع، لا يبقى أمامنا إلا تصحيح التطبيق للفيدرالية. كما طرح الصديق دريد نقطة مهمة جدا، وهي أن نعرف أولا ما هو موقف شعب كردستان من الحزبين المهيمنين على سلطة الإقليم، واللذين لا يقلان سوءً عن الأحزاب التي ثار أهالي محافظات الوسط والجنوب ضدها. ونفس الشيء يقال لشعب المحافظات المحررة. وأنا قلت في مقالتي لا إعادة صياغة العلاقة بين المركز والإقليم من جهة، ولا تفعيل الفيدرالية وتشكيل بقية الأقاليم من جهة أخرى، ممكنان إلا بإنهاء دور الأحزاب المسؤولة عما حل بالعراق، الشيعسلاموية الولائية منها، والسنية، والكردية.