تنظيم لابد منه.. التعداد السكانى بين إحصائيات «صادمة» وحقائق «مُفزِعة» وجرس إنذار ، التخطيط.. تتوقع تجاوز التعداد السكاني 130 مليون نسمة بحلول عام 2030
هند رأفت – جريدة الاهرام
«الزيادة السكانية مشكلة كبيرة وموجودة من أيام عبد الناصر»، يا ترى منتبهين لكلامى عن النمو السكانى ليكم ولا لأ؟، إحنا بنواجه مشكلة كبيرة، لا أنا لوحدى ولا انتوا لوحدكم، إحنا مع بعض نستطيع»، «يجب على الناس تساعدنا إنها تتفهم أسباب ما نحن فيه وإحنا ليه وصلنا لكده»، «أدعو المواطن للمشاركة الإيجابية فى التعامل مع أزمة الزيادة السكانية»، «هو أنتوا مش فى 2011 عملتوا ثورة علشان تحسنوا من أحوالكم، لازم الناس تعرف إن الأحوال مبتتحسنش إلا إذا كان معدل نمو السكان يتناسب مع قدراتنا الاقتصادية وقدرتنا فى التشغيل والموازنة العامة للدولة اللى هتنفق على العدد ده ونصيب الإنسان كام»، «أنا قولت لكم قبل كده إن مع تعداد دولة زى مصر مش هتشعروا إن فيه إنفاق حقيقى مناسب ليكم يعنى لو إحنا 100 مليون النهاردة فالرقم المناسب لـ100 مليون هو تريليون دولار اللى هو تقريباً بالمصرى 16 تريليون جنيه»..
ليست مجرد مقتطفات عابرة من عدة أحاديث للرئيس عبد الفتاح السيسى لكنها بمثابة جرس إنذار يدق تلقائيًا وأزمة حقيقية تجد طريقها وسط الحديث وتفرض نفسها على محتوى الحديث أيًا كان السياق؛ نظرًا لارتباطها بكل شىء وتأثيرها على كل شىء، وهو أمر طبيعى وله تفسيره الذى يتضح ويتمثل فى إجابة سؤال واحد «هل من أزمة أو مشكلة أو حتى إنجاز لا يتأثر بمعدل النمو السكانى فى أى دولة؟».
كل مولود جديد يُضيف رقمًا جديدًا للتعداد السكانى يأتى مُحمَّلًا بأعباء جديدة ومسئوليات وقائمة احتياجات طويلة تختلف وتتبدل بين مرحلة وأخرى، يأتى قدومه مُعلنًا فشل محاولات التنظيم واستمرار التقدم فى عجـلة إنتاج المواليد فى اتجاه معاكس لعجلة الإنتاج والتنمية. وبنظرة سريعة على متوسط الزيادة السكانية اليومية المتمثل فى الفارق بين أعداد المواليد والوفيات وهو 4255 نسمة ما يعنى 177 مولودًا لكل ساعة بمعدل 3 مواليد كل دقيقة أى مولود لكل 20 ثانية، تتضح الأزمة الحقيقية فى معـدل سريع وكبير لا يتناسب أبدًا مع مقدرات الدولة؛ بل بات واحدًا من التحديات التى تواجهها وتقف عائقًا فى مسيرة إنجازها.
وهو ما ترصده «الأهرام المسائى» فى ملف يتناول القضية الأكثر خطورة واحتياجًا لإيجاد حلول، فالزيادة السكانية وتحدى تنظيم الأسرة هى قضية الساعة الآن، نكشف الحقائق والمخاطر التى ينبغى لنا مواجهتها والاعتراف بها، كما نتناول الوسائل التحـفيزية التى تسعى الحكومة لاستخدامها فى إطار مواجهة المشكلة ودورها وما يمكن أن تقدمه فى سبيل إيجاد حلول جذرية للأزمة. دون «تهوين» كما يسعى ويروج البعض ولا «تهويل» أو «ترويع» كما يدَّعى البعـض، نكشف سيناريوهات الأزمة والعـواقب والتبعات لو ظلت الزيادة بالمعدل الكبير نفسه.
معادلة «الإنجاز» تبحث عن فرصة إنقاذ
خبراء ينصحون بتكثيف واستمرارية حملات تنظيم النسل لضمان التأثير.. ويطالبون بـ«حقوق أقل» لغير الملتزمين وخروجهم من نطاق مسئولية الحكومة
شقرة: معدل النمو الحالى يبتلع أى زيادة فى الدخل القومى.. والشعور بحجم التنمية والإنجاز يتطلب تخفيف الأعباء
جاب الله: الزيادة السكانية تمتص ثمار التنمية.. والأسر الصغيرة أكثر ملاءمة لـ «بيئة السعادة» التى تخطط لها الدولة
«مصر أيام زمان كانت..» عبارة يرددها الكثيرون كمقطع ثابت فى بداية الحديث عن حكايات الدولة المصرية وعلاماتها الفارقة، عبارة تعقُبها مجموعة كبيرة من الحقائق والأحداث التى سطَّرت تاريخنا العريق وسجَّلت له السبق فى العديد من الإنجازات على مستوى العالم كله.
مقارنات كانت فى الماضى القريب مثيرة للشجن والتساؤلات حول إمكان استعادة الأمجاد وتحقيق الطفرة التى تستحقها الدولة المصرية على كل الأصعدة، خاصة فى ظل حالة عدم الاستقرار التى شهدتها مصر بعد 2011 والتشاؤم الذى أصاب البعض والإحباط الذى سكن البعض الآخر بشأن إمكان إحداث تغيير، الأمر الذى جاء الرد عليه عمليًا لإثبات العكس على أرض الواقع، وهو ما شهدناه حقيقة ملموسة على مدى ست سنوات مضت استطاعت الدولة المصرية فيها كتابة تاريخ جديد مليء بالإنجازات والتحولات التى أعادت لنا الهيبة والمكانة والمكان الذى نستحقه وما زال السعى مستمرًا لتحقيق المزيد؛ لتتحول حكايات «مصر التى كانت» إلى «مصر أصبحت وأنجزت»، فتحقيق الاستقرار ومضاعفة حجم العمل والسير وفق مخطط تنموى شامل وواضح يسعى للانتشار والتوغل فى كل المجالات باتت أمورًا حياتية نشهدها ونتعايش معها ونشارك فيها؛ من أجل ضمان مستقبل أفضل. مصر 2030 التى ننتظرها ونحلم بها تحتاج كل الدعم للاستمرار الذى لا سبيل إليه إلا بالاستقرار أولاً وبالمضى قدمًا فى مخططات التنمية ثانيًا إلى جانب مواجهة أى معوقات قد تكون سببًا لتأجيل أو التأثير على ما ننتظره،
تلك المعوقات التى تسعى «الأهرام المسائي» للتركيز على سبل مواجهتها من أجل تحقيق الهدف الأكبر التنمية التى يستشعر آثارها ونتائجها كل مواطن مصرى. الفرص الضائعة الزيادة السكانية والنمو العشوائى أحد هذه المعوقات التى تسببت فى ضعف قدرات الدولة تدريجيًا منذ خمسينيات القرن الماضى بسبب عدم التوازن بين نمو قطاع الخدمات الأساسية بمعدل النمو السكانى نفسه الذى شهد زيادة كبيرة غير محسوبة، الأمر الذى يثير القلق حول صورة المستقبل الذى نتمناه وننتظره وكيفية تحقيق المعادلة الصعبة بنجاح فى ظل غياب أحد أطرافها. فى البداية، يقول الدكتور وليد جاب الله أستاذ التشريعات الاقتصادية، عضو الجمعية المصرية للاقتصاد والتشريع والإحصاء: إن عناصر الإنتاج تتمثل فى القوى العاملة والموارد الطبيعية ورأس المال وإدارة الأعمال، وقامت الدولة بالكثير من الإجراءات لجذب التمويل والتدريب على ريادة الأعمال التى يمكن من خلالها خلق نحو 800 ألف فرصة عمل سنويًا إلا أنه وحتى مع تحقق ذلك فإنه تظل هناك نسبة من القوى العاملة «متعطلة» على حد وصفه، مشيرًا إلى أن استمرار المشكلة السكانية يمتص تأثير خلق هذا العدد الكبير من فرص العـمل فى ظل زيادة عدد السكان، موضحًا أنه بمعدل مولود كل 20 ثانية جعل تعداد مصر يصل إلى 93.6 مليون سنة 2016 وبلغ 104 ملايين فى أغسطس 2019، هذه النسبة تعيش على 6 % فقط من مساحة مصر.
ويشير «جاب الله» إلى أن معدل المواليد 2.9 % وهى أربعة أضعاف معدلها فى أوروبا وحتى فى الصين، فقد ارتفع عدد سكان مصر لأكثر من 22 مليون نسمة خلال عشر سنوات وهو عدد أكبر من تعداد دول كاملة مما يجعلنا أمام حتمية التصدى لتلك المشكلة التى تمتص ثمار التنمية ويكون ذلك من خلال آليات أهمها التوعية من كل الجهات المعنية، واستطرد حديثه قائلاً: « بل ونحتاج لتجاوز ذلك إلى وضع قيود على الإنجاب غير المُنضبط، لنكون أمام أسر صغيرة أكثر قُدرة على تحفيز أفرادها للعمل والإنتاج وخلق فرص عمل ذاتية تُضاف لما تُخطط له الدولة، وأكثر ملاءمة على تهيئة بيئة السعادة لأفرادها. حقوق أقل ويضيف قائلاً: «لابد من الاعتراف بأن عقد الزواج لم يعد عقدًا بين طرفين، وإنما هو عقد تدخل فيه الدولة كطرف ثالث طالما أنها سوف تتأثر بحجم إنتاجية الأسر، وتتحمل التزامات مالية واجتماعية عما ينتج عنها من أطفال حيث يمكن وضع شروط تتعلق بعدد الأطفال وربطها بما يُمكن للدولة القيام بدورها معهم من هذا الزواج، وما يزيد يكون خارج مسئولية الدولة، فضلًا عن تقرير إجراءات ضد المُخالفين لذلك، ولعل ذلك يكون مُتفقًا مع مبدأ المُساواة فى الحقوق المُقرر دستوريا بحيث لا يحصل من يُنجب كثيرًا على حقوق من الدولة أكثر من الذى يُنجب أقل، ليكون الهدف هو تكوين أسر صغيرة سوية تستطيع الحياة وتُضيف للاقتصاد. ويرى الدكتور جمال شقرة أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر ومدير مركز بحوث الشرق الأوسط والدراسات المستقبلية بجامعة عين شمس سابقًا أن الوضع الحالى الذى تعيشه الدولة المصرية يدعو للتفاؤل، مشيرًا إلى أن هناك تخطيطًا جيدًا للتنمية وإنجازات تتم فى البنية الأساسية للدولة، وكذلك توفير فرص عمل للشباب بشكل غير مسبوق، مؤكدًا أن مشروعًا واحدًا من المشروعات القومية يوفر فرص عمل لآلاف الشباب ولنا فى العاصمة الإدارية خير مثال على ذلك.
ويشيد «شقرة» بالرؤية العامة للدولة وخطط التنمية التى يرى فيها استقراء جيدا للماضى واستشرافا رائعا للمستقبل والدليل على ذلك ربط معدل التنمية بمعدل النمو السكانى نظرًا لارتباطه الوثيق وتأثيره المباشر على الجانب التنموى، ويرى أن الأزمة التى تواجهنا فى الميزان التجارى بسبب استمرار غلبة كفة الاستيراد على التصدير، مفسرًا ذلك بالزيادة السكانية الهائلة التى تؤدى إلى زيادة معدل الاستيراد بالتوازى لتغطية احتياجات هذا العدد الضخم، مستطردًا: «وإن كنا الآن نقتحم مجالات جديدة فى قطاعات الاقتصاد المختلفة ونعود مرة ثانية لتنمية قطاع الصناعة لتخفيف الاستيراد وزيادة الاعتماد على المنتج المصرى إلا أن الأمر يبدو وكأنه لا يتغير بسبب أن الدخل القومى الذى يتزايد والفارق الذى ظهر يتم ابتلاعه بسبب الزيادة السكانية». ويقول إن حالة من التراخى على كل المستويات أصابت القطاعات التى كان مفترضًا منها مواجهة مشكلة الزيادة السكانية على مدى سنوات طويلة، مشيرًا إلى القطاع الإعلامى على سبيل المثال قائلًا: «ابحثوا عن قناة تليفزيونية واحدة تتحدث أو تناقش بصفة مستمرة على تحديد النسل أو تنظيمه، ابحثوا عن القوانين التى تم تفعيلها بهذا الخصوص»، ليصمت لحظات ويستكمل الحديث مفسرًا قوله: «إحنا مبنقولش للناس متخلفوش لكن لازم يكون فيه وعى بتنظيم النسل وبالمباعدة بين الأطفال حتى يمكن تربيتهم التربية السليمة وتقديم الرعاية الكاملة لهم سواء داخل نطاق الأسرة أو على مستوى الدولة».
ويؤكد أن الزيادة السكانية تلتهم أى زيادة فى الناتج القومى وتمثل عبئًا شديدًا على الدولة، مشيرًا إلى أنه بمراجعة بسيطة لأعداد المدارس المطلوبة مع كل عام دراسى جديد يتضح لنا حجم الزيادة فى أعداد الأطفال المتقدمين لمرحلة التعليم الإلزامى، والأمر نفسه ينطبق إذا تمت مراجعة ميزانية وزارة الصحة التى تبتلعها الزيادة السكانية، وبالتالى فإنهم يمثلون عبئًا متجددًا على الدولة للحاجة إلى زيادة الخدمات الأساسية التى يحتاجها المواطن بمعدل الزيادة غير المسبوقة نفسه. يشير إلى فترة زمنية سابقة وصفها بمرحلة وعى المواطنين التى جاءت بنتائج إيجابية ملموسة عندما كانت حملات تنظيم الأسرة تتصدر شاشات التليفزيون ومحطات الإذاعة بالراديو علاوة على مؤسسات التنشئة الاجتماعية التى كان لها دور مهم ومؤثر، الأمر الذى اتضح أثره من نصائح العديد من الأمهات لبناتهن خاصة فى الأوساط المتعلمة والمثقفة بتنظيم النسل والاكتفاء بإنجاب طفلين فقط؛ بل والمباعدة بينهم لضمان مستقبل أفضل لهم، مؤكدًا أن الإعلان عن أدوات تحديد النسل بين الحين والآخر واستمرار إعلانات وحملات تنظيم الأسرة لفترات طويلة كان له عظيم الأثر والنتائج. وضرب «شقرة» المثل بإعلان «حسنين ومحمدين» الذى كان يحفظه الناس ويرددون كلماته بالإيقاع وفى الوقت نفسه خرجوا منه بالحكمة المطلوبة واقتنعوا بها وهى أن ابن الشخص الذى قام بتنظيم أسرته مستقبله أفضل فى التعليم والصحة وكل شيء من مستقبل ابن الأسرة التى رفضت تنظيم النسل ومعها «كومة أطفال» لا يستطيعون رعايتهم على حد قوله.
ويوضح أن الزيادة السكانية ليست عبئًا على إطلاق المسألة لأن المجتمعات تحتاج قوى عاملة وشبابًا ولكن المهم التنظيم، وكذلك خلق مشروعات وفرص استثمارية، مؤكدًا أن هذا هو ما يحدث فى مصر الآن من مشروعات قومية كبرى وجذب للمستثمرين وخلق فرص عمل جديدة ومحاولة توسيع الرقعة السكنية واستيعاب الزيادة السكانية الموجودة، ولكننا فى الوقت نفسه نحتاج الآن لإطلاق الدعوة من أجل المستقبل فى محاولة لتخفيف الضغط على موارد الدولة حتى لا يستمر النمو بنفس المعدل الخطير، فهى دعوة لكل مؤسسات التنشئة الاجتماعية لتناول موضوع تنظيم النسل مع تكرارها واستمرارها بجدية حتى تحقق النتائج المنشودة والتأثير المطلوب وعدم الاكتفاء بإعلان أو مجموعة إعلانات ضمن حملة تستمر لفترة قصيرة وتنتهى، مشددًا على أن تلعب الأسرة الكبيرة أيضًا دورها فى توعية أبنائهم المقبلين على الزواج، وكذلك دور العبادة فى الخطب الدينية التى يتم توجيهها من خلال الإشارة إلى أهمية تنظيم النسل وتأكيدًا أن هذا لا يتعارض مع الأديان؛ نظرًا لترويج البعض حتى الآن لـ«حرمانية» تنظيم النسل.
ويرى ضرورة مخاطبتهم من نفس المنطلق لأن الرزاق هو الله نعم، ولكن التركيز على كثرة الإنجاب دون وعى سيعود على هؤلاء الأطفال الذين لن يجدوا ما يسد احتياجاتهم وخدماتهم ليس فقط داخل الأسرة ولكن بشكل عام. ويضيف أنه يمكن الاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعى ووسائل الاتصال الحديثة إلى جانب وسائل الإعلام التقليدية لتقف جنباً إلى جنب مع مؤسسات التنشئة الاجتماعية وكل الوزارات المعنية من تعليم وصحة وثقافة وغيرها من الوزارات والمؤسسات التى يمكنها القيام بدور فى عملية التأثير، مشيرًا إلى إمكان الترويج لحملات قديمة وإعلانات كان لها صدى واسع من قبل لأنها ستكون عامل جذب يمكن استغلاله بشكل إيجابى على تلك الوسائل وسيلقى إقبالاً كبيرًا.
كما يطالب «شقرة» بضرورة تكثيف جهود وزارة الصحة فى الريف المصرى بشكل خاص؛ حيث مازالت تهيمن بعض الأفكار الرجعية والمغلوطة المنسوبة للدين وباسم العادات والتقاليد تقف عائقًا أمام محاولات التأثير والإقناع لتلك الحملات، لينهى حديثه مؤكدًا ضرورة تضافر الجهود حتى لا ينحرف البنيان الإنتاجى ويتضاعف حجم استيرادنا بحجم النمو السكانى وإلا ستظل الزيادة السكانية تبتلع المشروعات والإنجازات التى تسعى لها الدولة مهما تضاعف حجمها.
خبراء فى رحلة البحث عن أفكار «بره الصندوق
يعترفون بـ «الدوافع» ويشرحون «الموانع».. ويطرحون السؤال
والجواب: «هل تكفى الوسائل التحفيزية للسيطرة على الزيادة السكانية؟»
مع طرح أى أزمة وأسبابها لابد من طرح حلول ومناقشة مقترحات فى سبيل الخروج بمسارات متفق على صلاحيتها للتنفيذ على أرض الواقع والأهم الإتيان بالنتائج المطلوبة، وهو ما نسعى إليه فى ملف الزيادة السكانية وتنظيم الأسرة الذى اتفق الجميع على ضرورة تضافر الجهود كل فى سبيل إنقاذ الموقف والخروج من المأزق.
وهو ما يتناوله «خبراء» على طاولة «الأهرام المسائي» باحثين عن حلول «عملية» خارج الصندوق على حد وصف بعضهم، يرصدون الوضع الحالى وتأثيره وتبعات استمراره، ويتناولون الأفكار الحكومية والمقترحات المجتمعية التى تم طرحها هذا الشأن ويُقيِّمون الوسائل التحفيزية التى أعلنت الحكومة أنها بصدد طرحها فى سبيل تشجيع المواطنين على التعاون والالتزام.
فى البداية، يقول الدكتور محمود الصاوى أستاذ الثقافة الإسلامية بجامعة الأزهر، الوكيل السابق لكليتى الدعوة والإعلام: إن حفظ النسل أحد المقاصد العليا لشريعة الإسلام التى جاءت لتحقيقها، وتحديد المصطلحات فى هذا الأمر مهم جدًا، فهناك فارق بين تحديد وتنظيم النسل، فالتنظيم هو ترتيب الولادات للمرأة لكى يأخذ كل طفل حقه الطبيعى من الرضاعة الطبيعية والرعاية، وهو ما أوصانا به الله عز وجل فى قوله تعالى والوالدات يُرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يُتم الرضاعة»، فكلما كانت الولادات متباعدة وتُرِكت مسافة مناسبة بين الطفل الأول والثانى استطاعت الأم أن تُخرِج جيلًا قويًا، فالتنظيم يمنح الأم فرصة طيبة لتربية النشء بصورة جيدة تتوافر فيها كل سبل الرعاية كما يمنح الأم القدرة الجسدية اللازمة لرعاية الأبناء لأن عملية التربية عبء كبير لا يعرفه إلا من تحمل مسئولية التربية.
ويستكمل حديثه مُفسرًا مسألة على قدر كبير من الأهمية كما وصفها وهى مسألة الحفاظ على النسل كأحد المقاصد العليا والكلية للشريعة الإسلامية ولكن من سبل المحافظة على هذا المقصد لابد من توفير أسباب القوة والرعاية والعناية به، فالمؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، ومفهوم القوة بالتأكيد يتفاوت من عصر إلى عصر، مشيرًا إلى أنه قد صح الخبر عن سيد البشر صلى الله عليه وسلم أنه قال (أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)، وفى هذا الحديث دلالة واضحة على ضرورة العمل بكل قوة وجدية من أجل تحصيل الرزق وتلبية حاجات الأسرة والأولاد وخلق فرص جيدة لهم سواء بتعليمهم تعليمًا جيدًا أو إكسابهم مهنًا تدر عليهم دخلًا منتظمًا يعينهم على تحقيق حياة يبتعد عنها العوز والفقر والحاجة، لذلك فإن التفكير فى مسألة الإنجاب لابد أن تكون فى إطار صالح الأسرة والأولاد المقبلين.
لذلك يرى «الصاوي» أن وجود إستراتيجية واضحة ذات معلومات تحمل قدرًا كبيرًا من الشفافية وتجيب عن كل تساؤلات الناس ستساعد على تحقيق الهدف الأساسى من الحملات التى تخاطبهم، من خلال معرفة ما يدور فى أذهانهم وما هم على قناعة تامة به.
ويؤكد «الصاوي» أن القضية التى نتحدث عنها ليست قضية بسيطة لكنها مركبة ومُعقَّدة والمسئولية فيها موزعة على الجميع، فالكل مسئول عن هذه الحالة، فالمؤسسات عليها مسئوليات والأفراد عليهم مسئوليات، لذلك يستلزم الأمر أولًا تحويل الكثرة العددية إلي نقطة قوة للمجتمع وإيجابية من الإيجابيات لاستيعاب ما وصلنا إليه، وليتم ذلك من خلال تأهيل مهنى وفنى يكون له دور فى تحويل الكثرة العددية إلى قوة إنتاج ضاربة فى المجتمع، لينهى حديثه مخاطبًا المواطنين أنفسهم بالتصرف فى حدود طاقاتهم وقدراتهم المادية والمعنوية من أجل تربية نشء متميز وقوى وقادر على مواجهة أعباء الحياة.
ويوضح اللواء الدكتور سعد الدين خليل خبير التنمية الإدارية وإدارة الموارد البشرية والإبداع المؤسسى أن أى مشكلة تواجه أى منظمة -وكلمة منظمة هنا تنطبق على دولة أو وزارة أو جهة لابد أن يكون هناك تكاتف من كل الأجهزة لمواجهة هذه المشكلة.
ويشير إلى ضرورة تحديد المهام وتوزيع المسئوليات بشكل محدد وأن يتبع الجميع جهة واحدة تستطيع تقدير النتائج ومدى تحقيقها على أرض الواقع.
ويرى «خليل» أن أكثر الأطراف المعنية بالقضية وأصحاب التأثير الأكبر على المواطنين وتوجهاتهم هم رجال الدين سواء الإسلامى أو المسيحى، فالخطاب الدينى حين يأتى إليهم حاملًا بعض النصائح أو المفاهيم أو المناقشات حول تلك القضية سيكون له تأثير كبير كمفعول السحر، فقد يمس الخطاب رجلاً محدود الدخل يفكر فى المزيد من الأبناء فيفكر مثلًا «لو عندى خمس ست أولاد مش هعرف أصرف عليهم صح ولا هعرف أعلمهم صح»، كما يشير إلى وزارة الصحة ودورها لأنها جزء أصيل وحيوى فى هذه القضية.
ويضيف «خليل» أنه فى الفترة التى كان فيها فى المجلس القومى للسكان منذ ما يزيد على عشر سنوات كانت المناقشات والمقترحات لا تخرج عن إطار الحوار ومحاولات التأثير الشفهية دون إجراءات تساعد فى التحقيق، لذلك يرى أن المطلوب هو مقترح عام يأتى بمثابة تشريع للدولة بالكامل.
ويرى أن التحفيز بمقترح شمول أول وثانى طفل بكل الخدمات التى تقدمها على مختلف مستوياتها ثم تقديمها بتكلفة لكل ما يخص الطفل الثالث ومن يأتى بعده يمكن أن يكون له دور، ولكن شرط أن تكون هناك توعية مستمرة تسير بالتوازى مع تفعيل هذا المقترح، مشيرًا إلى أن امتداد وتفاقم المشكلة منذ عهد عبد الناصر يؤكد أن المسألة تستلزم طريقة مختلفة فى المعالجة، موضحًا أنه لم يكن يريدها إلزامية بقانون ولكن ما آلت إليه الأحوال يؤكد حاجتنا لقانون ينظم الموضوع، حتى يتعدى الأمر مرحلة الكلام على حد قوله.
ويستكمل «خليل» حديثه قائلًا: «رجل الدين يمكنه القيام بها وهو الأكثر قدرة على الإقناع وهناك الجمعيات الأهلية التى يمكن أن يأتى دورها فى تغيير سياستها المتبعة فى تقديم المساعدات»، مفسراً قوله بأن قيام بعض الجمعيات بمساعدة رب أسرة لديه 11 طفلاً قد يكون أمرًا مُحفِزًا بالنسبة له على الإنجاب، لذلك لابد من معرفة عدد أفراد الأسرة أولاً ويمكن ربطها بحجم المساعدات المُقدمة.
ويشير إلى أن ربط الزيادة السكانية بتفاقم بعض الأزمات لن يكون مؤثرًا بالقدر المطلوب خاصة أن هناك بعض الآراء التى تخرج أحيانا من مشاهير يتحدثون دون دراية عن بعض الدول ذات الكثافة السكانية العالية وتعايشهم مع الوضع دون تنظيم الأسرة ويعقدون المقارنات، مما يتسبب فى بعض البلبلة لدى المتلقين الذين يصابون بالتشتت والتشكيك فى أهمية ملف تنظيم الأسرة وتأثيره. ولأن التجاهل أفضل رد فى هذه الحالة كما يؤكد خليل فإنه يرى أن الاعتماد على وجوه جديدة يتقبلها الناس ويستمعون إلى حديثهم دون رواسب قديمة. ويرى أن بعض مقدمى الرسائل الإعلامية افتقدوا الذكاء فى التعامل مع الحقائق التى ساقها الرئيس فى أكثر من حديث قائلًا: «الريس لما اتكلم قال كل حاجة بالأرقام، وقال لو وصلنا كذا هيحصل كذا واتكلم عن اللى اتعمل واللى محتاج يتعمل، وهنجيب كذا منين، ووضح خطورة القضية، وبعدها ييجى حد يتكلم مع الناس فى محاولة لتوجيههم والتأثير عليهم يبوظ القضية بكلمتين».
وعن مواصفات الحملة التى يمكنها صناعة فارق يقول خليل إن التحفيز أمر مهم حتى نصل بمتلقى الرسالة لقناعة تنبع من داخله وتجعله يتساءل «مش كفاية أوى اتنين عشان أقدر عليهم؟»، كما يشير إلى أهمية مخاطبة كل فئة على قدر ثقافتها، وكذلك ضرورة تناول القضية بشكل جاد ووقور لا يحمل أى طابع سخرية أو كوميديا لأن خطورة القضية لا تتناسب مع محتوى بهذه المواصفات.
كما يطالب «خليل» وزارة الصحة بضرورة توفير البدائل للناس بصفة مستمرة حتى نساعدهم فى الاستجابة لحملات تنظيم الأسرة، لذلك لابد من التأكد من توفير وسائل منع الحمل فى كل الوحدات الصحية فى كل ربوع مصر، كما ينبغى التعامل مع ثقافة أهل القرى وتوفير ما يلزم لهم حتى لا تقف أمامهم أى عقبة كتوفير طبيبة أو أكثر فى كل وحدة صحية لقناعة بعض السيدات بعدم التعامل مع طبيب فى تلك الأمور أو الاستفسارات النسائية والأسرية. كما يشير إلى ضرورة مناقشة كل مخاوفهم والشائعات التى تتردد ويصدقها الكثير منهم من خلال تفسير وتوضيح ما يتعلق بالأمر، وضرب المثل بما يتردد فى أحاديث بعض السيدات من القرى والنجوع حول حبوب منع الحمل وما تسببه من سرطانات، الأمر الذى يحتاج إلى توعية ونقاش حول الموضوع لأنهم يرفضون استخدامها نهائياً ويستجيبون لنصائح الأمهات والأزواج «متاخديش حاجة وسيبيها كده»، بخلاف بعض المعتقدات التى تسيطر على أفكار البعض حول دور السحر والشعوذة فى حسم مسألة الإنجاب، الأمر الذى يؤكد أن تضافر الجهود وتعاون كل الجهات أمر لابد منه.
ويشير «خليل» إلى أنه فى إطار التخصص: «نحن الآن أمام منظومة لها مدخلات ومخرجات وبينهما عمليات، المدخلات لدينا هنا كثرة الإنجاب والمخرجات الأعداد تزيد باستمرار وبمعدل كبير لذلك فإن مرحلة العمليات تخص كل أجهزة الدولة، فلابد ألا يقتصر الأمر هذه المرة على الصحة والإعلام؛ بل هناك دور لكل وزارة، لأننا أمام قضية مترامية الأطراف وتحتاج تفكير بره الصندوق».
ويؤكد ضرورة وجود وسائل جديدة مبتكرة تخاطب الناس بطريقة مختلفة، ولا يمكن تجاهل تجارب الدول الأخرى؛ بل يكاد يكون ذلك أول الطريق للسيطرة على الأزمة.
تعددت التجارب.. والهدف واحد
«طفل حد يكفى» فى الصين.. وإعداد برامج للمقبلين على الزواج فى «إندونيسيا» لإبراز مزايا الأسر الصغيرة.. وتضافر الجهود الرسمية وغير الرسمية فى تونس سر النجاح
«طفل واحد يكفي» فى الصين.. وإعداد برامج للمقبلين على الزواج فى «إندونيسيا» لإبراز مزايا الأسر الصغيرة.. وتضافر الجهود الرسمية وغير الرسمية فى تونس سر النجاح.
الاطلاع على تجارب الآخرين جزء من نجاح أى تجربة جديدة، وهو ما يوصى به كل خبير بخصوص القضية السكانية، نظرًا للوقوف على مدى نجاح كل تجربة فى تحقيق مُرادها والتخفيف من معدل النمو السكانى
فى سبيل منح الفرصة للمسار التنموى حتى يُكمل طريقه الصحيح.هناك من اعتمد سياسات صارمة حازمة وهناك من لجأ إلى اتباع وسائل ترفضها دول أخرى لدواع دينية واجتماعية لما فيها من إجبار ومنع للإنجاب بصورة جراحية، وهناك من سعى لتقديم برنامج ثقافى قائم على التوعية والتحفيز أكثر من أى شيء، لذلك هى مجرد نظرة سريعة مُختَصرة على بعض التجارب، لعل فيها ما يمكن الاستعانة به فى ملف تنظيم الأسرة.
تعد تجربة الصين من أكثر التجارب التى نجحت فى تنفيذ برامج تنظيم الأسرة؛ حيث بدأ الأمر بزيادة عدد السنوات بين الطفلين الأول والثانى بهدف التباعد بين الولادات إلى جانب ارتفاع سن الزواج إلى أكثر من 25 سنة، إلى جانب تطبيق فكرة الحوافز الإيجابية والسلبية على الملتزم وغير الملتزم وكذلك دمج مسار التنمية ببرامج تنظيم الأسرة، فاكتفى أبناء الريف بطفلين أما لأزواج الحضر فطفل واحد يكفى، تلك السياسة التى صنعت الفارق مع دولة الصين، الأمر الذى سيتحقق وتُجنَى ثماره حتى عام 2050.
ومن «الصين» إلى «إندونيسيا» التى قامت أيضاً بتجربة ناجحة فى تنظيم الأسرة، وجاء ذلك مع اتباع نظام مؤسسى منذ عام 1999 بدأ بإنشاء وزارة لشئون المرأة وتدخل فى إطار المهام المطلوبة منها متابعة برامج تنظيم الأسرة وتهتم بتمكين المرأة اجتماعيًا واقتصاديًا ودفعها نحو التعليم والعمل لاعتبار ذلك محورًا أساسيًا فى مواجهة الزيادة السكانية، ولم يقتصر الأمر على المرأة؛ بل تم إشراك الأزواج حيث تحملوا مسئولية كبيرة فى مسألة تنظيم الأسرة إلى جانب اهتمام رجال الدين بالقضية بشكل كبير ومؤثر وتوعية المواطنين بأهميتها، وكذلك إعداد المقبلين على الزواج ومنحهم برامج خاصة تبرز مزايا الأسر الصغيرة. كما تحظى تونس بتجربة ناجحة خاصة بعد ربط التجربة بالبُعد التنموى وقامت بدمج برامج وخدمات تنظيم الأسرة ضمن الخدمات الصحية الأساسية واستهدفت شرائح اجتماعية مختلفة، علاوة على الاهتمام بالتثقيف السكانى للشباب والاعتراف بأهميته ومدى تأثيره فى مجال الصحة الإنجابية والثقافة الجنسية، مما ترك أثرًا إيجابيًا لدى الشباب تجاه برامج تنظيم الأسرة والقضية السكانية ككل.
كما كان هناك تعاون كبير بين المنظمات الحكومية وغير الحكومية فى تونس من أجل وجود منظومة عمل متكاملة تخاطب الجميع وتستهدف طرح كل وجهات النظر والتوجهات من أجل تثقيفهم عن قناعة وإرادة جادة فى مواجهة المشكلة.