تركيا ومصر.. نحو علاقات جيدة تفرضها المصالح الاستراتيجية
تتميز العلاقات بين تركيا ومصر كدولتين إقليميتين بارزتين ساهمتا في تشكيل ملامح الشرق الأوسط مطلع القرن العشرين، أنها مرت بالعديد من المحطات بين صعود وهبوط، نظرا لكل مرحلة تاريخية كانت تمرّ بها كل منهما.
كما لعبت الأواصر الثقافية والتاريخية المشتركة بين البلدين، دورا كبيرا بالحفاظ على طابع الانسجام أو الهدوء على الأقل، طيلة القرن الماضي.
ومع مجيء حزب العدالة والتنمية للسطلة في تركيا عام 2002، شهدت هذه العلاقات تحسنا ملحوظا، في ضوء السياسة الخارجية الجديدة التي تبناها آنذاك الحزب الوليد، حيث قامت هذه السياسة على تصفير المشاكل وتحسين العلاقات مع الخارج، والتوجه نحو الدول العربية والقارة الإفريقية، بدلًا من التركيز فقط على الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، كما كان ديدن الحكومات التركية السابقة.
وفي خضم هذه المرحلة شهدت أنقرة والقاهرة توقيع اتفاقية “التجارة الحرة“، في 27 كانون الأول/ديسمبر عام 2005، لتدخل حيز التنفيذ بشكل فعليّ عام 2007، وتقضي الاتفاقية التي لا تزال سارية المفعولية بزيادة التعاون الاقتصادي بين الطرفين، وإزالة المعوقات والقيود الخاصة بتجارة السلع.
أنقرة كانت على علاقة طيبة مع القاهرة في عهد الرئيس الراحل حسني مبارك، في ظل تطور إيجابي ملحوظ بين تركيا ومصر.
ومع بدء ثورات الربيع العربي، وانتفاضة الشعب المصري في 25 كانون الثاني/يناير 2011، الذي أطاح بمبارك وحكومته، دخلت البلاد في مرحلة مؤقتة ترأسها المجلس العسكري بقيادة المشير طنطاوي، كان موقف أنقرة واضحًا وهو الوقوف إلى جانب الشعب المصري واحترام رغبته وإرادته.
ورحبت تركيا بالمرحلة التي أسست لولادة أول تجربة ديمقراطية في تاريخ مصر، من خلال انتخابات رئاسية يتم فيها اختيار الرئيس بشكل مباشر من قبل الشعب، حيث أجريت انتخابات حزيران/يونيو منتصف 2012، والتي فاز فيها الرئيس المصري الراحل محمد مرسي، أول رئيس مدني منتخب من الشعب بشكل ديمقراطي في تاريخ مصر.
لا شك أن العلاقات التركية المصرية شهدت تطورًا في عهد مرسي، إلا أن هذا التطور كان يصب في مصلحة البلدين معًا، حسب العديد من المراقبين، أي أنه لم يكن على حساب التفريط بمصالح مصر كما يروّج البعض.
من المعلوم أن هذه التجربة الديمقراطية في مصر لم تستمر كثيرًا، حيث أطاح بها انقلاب 30 تموز/يوليو 2013، بقيادة الرئيس المصري الحالي عبد الفتاح السيسي، ولا شك أن هذا الحدث كان بداية مرحلة شائكة من العلاقات مع تركيا، لا تزال تبعاته مستمرة حتى اليوم.
رفضت تركيا في ذاك الوقت بشكل قاطع الانقلاب على الحكومة الشرعية المنتخبة، واعتبرت أن الانقلابات العسكرية لم تكن يومًا حلًّا لأي خلاف داخلي، معلنة وقوفها إلى جانب الشعب المصري، وإلى جانب المضهدين والمظلومين الذين لجؤوا إليها هربًا من ممارسات النظام الجديد.
ومنذ عام 2013 حتى يومنا هذا، لا يمكن القول إن هذا الموقف التركي قد شهد تراجعًا أو تغييرًا ما، وربما يغيب عن البعض أن الموقف التركي الرافض بشكل قطعي للانقلابات العسكرية لا يتعلق بدولة ما أو حزب ما أو شخص ما، بل إنه ينبع من حساسية تركيا وشعبها من أي نوع من الانقلاب سواء العسكرية أو الناعمة، لأن تركيا عانت كثيرًا من تبعات هذه الانقلاب، بدءا من انقلاب عام 1960 على الراحل مندريس، وصولًا لآخر محاولة انقلابية باءت بالفشل مساء 15 تموز/يوليو 2016.
ولقد أكد هذا الشيء وزير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو، خلال مقابلة مع قناة “خبر تورك” أمس الثلاثاء، حيث شدد على أن تركيا لا تزال تعارض تصنيف الحكومة المصرية جماعة (الإخوان المسلمين) على أنها تنظيم إرهابي“. مشيرا إلى أن “الحكومة التركية تعتبرها حركة سياسية تحاول الوصول إلى الحكم عن طريق الانتخابات، أحببنا ذلك أم لا“.
كما شدد تشاويش أوغلو على أن “علاقات تركيا لا تقوم على أحزاب أو أفراد، مؤكدًا أن “تركيا تعمل مع الحكومة التي يجلبها الشعب في بلده، فلو تعرض السيسي في ذلك الوقت لانقلاب عسكري لكنّا قد وقفنا ضد ذلك“.
هذا يعني أن التطورات الأخيرة من رسائل إيجابية بين البلدين وخطوات نحو مصالحة جزئية، لا تخرج عن سياق طبيعة العلاقات الدولية التي تتسم بالمد والجزر، بما يحقق مصالح الدول ويدفع بها نحو الأفضل.
على سبيل المثال، تعيش تركيا مع الولايات المتحدة أزمة كبيرة بسبب العديد من المسائل، على رأسها قضية منظومة الدفاع الجوي الروسية S-400، إلى جانب طائرات F-35، وعلى الرغم من ذلك فلا يزال هناك تواصل دبلوماسي رفيع بين البلدين.
كذلك الحال بين تركيا واليونان، الأزمة هنا أكبر شرقي المتوسط وكان العديد من الخبراء يتحدث عن مخاوف من نشوب صراع محتمل بسبب الخلافات البينية على العديد من المسائل بما يخص الحدود المائية وتقاسم الثروات الطبيعية، في ظل تعنت اليونان وإصرارها على هدر حقوق تركيا، ومع ذلك لا تزال هناك محادثات بين البلدين وزيارات متبادلة.
وبالتالي فإن الرسائل الإيجابية الأخيرة بين أنقرة والقاهرة، وحسب ما يؤكد مراقبون، لا تعني تغيرًا في موقف البلدين من العديد من المسائل، ولا شك أن العلاقات الدولية بطبيعتها لا تتطلب ذلك، بل يكفي الاتفاق على النقاط الرئيسية التي تلبّي مطالب البلدين ومصالحهما.
ولا شك أن مصالح تركيا ومصر شرقي المتوسط أقرب إلى بعضها بكثير من قرب مصالح اليونان مثلًا لمصر، حيث أن اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين الأخيرتين أفقدت مصر جزءًا شاسعًا من حقوقها المائية، بيد أن اتفاقية من نفس النوع بين تركيا وليبيا جرت في تشرين الثاني/نوفمبر 2019 ضمنت لمصر حقوقها المائية بشكل عادل بين الجميع.
الموقف التركي تجاه الانقلابات العسكرية لم يتغير، وأنقرة لن تصنف “الإخوان المسلمين” جماعة إرهابية بل تراها حركة سياسية فحسب، والأواصر التاريخية والثقافية بين البلدين إلى جانب مكانتهما في الشرق الأوسط تفرض عليهما التمتع بعلاقات جيدة أو هادئة على الأقل تخدم مصالح الدولتين والشعبين بغض النظر عن الأحزاب والأشخاص.