بعد حضور قيادات الحركات المسلحة للخرطوم، بعض منهم قد عقدوا مؤتمرا صحفيا في وكالة السودان للأنباء، و هناك من استضافته قنوات تلفزيونية للحديث عن اتفاق السلام، و قد وردت تصريحات عديدة من منابر مختلفة، و هذه اللقاءات قد بعثت أشارات عديدة في اتجاهات مختلفة، و هي تتمحور حول التبشير باتفاقية السلام التي وقعت في عاصمة دولة جنوب السودان جوبا، و أيضا رؤيتهم لكيفية إصلاح الفترة الانتقالية، و معالجة الأزمة الاقتصادية. و معروف أن اتفاقية جوبا قد وجدت ترحيبا من بعض القوى السياسية، و البعض الأخر أعتبرها اتفاقية ناقصة لأنها لم تشمل كل الحركات خاصة تلك التي تملك قوة على الأرض. و البعض الذين تحفظوا على الاتفاقية دون التصريح بحقيقة موقفهم منها. لذلك نجد تصريحات قيادات الثورية حاولت أن تعلق علي تلك الأراء.
قال رئيس حركة تحرير السودان مني أركو مناوي في اللقاء الذي أجراه تلفزيون السودان مع قيادات الحركات المسلحة, “إن المخاوف التي تبديها بعض الاحزاب السياسية بشأن اتفاق جوبا لسلام السودان غير موضوعية، و بعض الأحزاب تحتج ضد الاتفاق والبعض الآخر يحرض ضده” و أضاف قائلا “يجب بناء أرضية صلبة تتحمل الأحزاب والحركات المسلحة” تغيب عن مناوي اللغة الديمقراطية، حيث يفضل كلمة محتج من استخدام كلمة نقد الاتفاق، فالذين نقدوا الاتفاق بأنه خرج من الآطار المرسوف لمفاوضات السلام التي يجب أن توقف الحرب و تنقل بعض الأجندة إلي المؤتمر الدستوري، و ذلك يرجع أن السلطة الانتقالية هي سلطة غير مخول لها أن تدخل في موضوعات توزيع السلطة و الثروة لأنها قضية تحتاج لشرعية جماهيرية واسعة. المسألة الثانية أن الاتفاق ظل فوقي بين سلطة انتقالية مع حركات مسلحة و غابت الأحزاب السياسية، و بالتالي غاب الشارع الذي يجب أن يكون ضامنا لاتفاقيات السلام و حامي لها. و النقطة الثالثة أن هناك حركات تحمل السلاح و لها قوات كبيرة و هي لم تشارك في مفاوضات السلام، مما يجعل ملف السلام مفتوحا و يحتاج إلي حوار واسع لكي يصبح واقعا مقنعا للجميع.
قال رئيس الجبهة الثورية د. الهادي إدريس لبرنامج (حديث السلام بقناة النيل الأزرق) إلى أن تنفيذ اتفاقية السلام يواجه العديد من التحديات، خاصة المالية، الا ان جميع العالم يمر بظروف اقتصادية صعبة والسودان حالة استثنائية، مقرًا بعدم توافق واجماع للقيادة السياسية بالبلاد وغياب الرؤية السياسية للخروج بالمرحلة الانتقالية الى مرحلة الديمقراطية مشيرا الى التشاكسات وعدم الثقة” إذا كان العالم كله يعاني من أزمة اقتصادية كيف تستطيع سلطة الفترة الانتقالية أن توفر الأموال الطائلة المطلوبة لتنفيذ بنود اتفاق السلام، و الحركات معولة كثيرا أن تعجل سلطة الفترة الانتقالية أن توفر أموال التعويضات حتى قبل فتح حوار مع الحركات التي لم تصل لاتفاق، باعتبار أن توفر الأموال هو محاولة لكسب رضى الجماهير في ظل صراعات مناطقية، مما يعتبره البعض استباق لقيام الانتخابات بهدف عملية استقطابية، خاصة أن هناك تنافس بين الحركات المسلحة.
و هذا يرجعنا لقول قائد حركة تحرير السودان عبد الواحد محمد نور بأن لديه مبادرة للسلام، و يقول أن السلام يجب أن يرتبط ارتباطا حقيقيا بالواقع الاجتماعي، ليس قاصرا علي منطقة، أو مناطق بل يجب أن يشمل كل السودان، و يطال كل المظالم التاريخية في كل السودان، و هنا يختلف نور مع رؤية الجبهة الثورية التي ركزت علي أقاليم دارفور. أما قضية الديمقراطية تمثل إشكالية في أجندة الحركات و الأحزاب السياسية، حيث هي الفكرة التي اسقطتها الاتفاقية و لم تفرد لها مساحة تؤكد أهميتها، و لكنها تجيء في سياقات الحديث أشبه بالشعار منها إلي المبدأ الذي يجب أفراد له مساحة تجعلها هي حجر الزاوية، خاصة أن اتفاق جوبا هو جاء بعقليات عسكرية إذا كانت من جانب الحركات المسلحة، و من جانب المفاوض الحكومي. الأمر الذي يجعلنا نطرح سؤالا مهما هل التجربة السياسية في السودان تجعل المواطن في قناعة أن عقل البندقية يمكن أن يشارك بجد في تأسيس نظام ديمقراطي؟
في جانب أخر من المشهد نجد دكتور جبريل إبراهيم رئيس حركة العدل و المساومة، يقول في المؤتمر الصحفي في سونا، يجب التخلص من شعارات و ممارسات الإقصاء التي تطلقتها بعض القوى السياسية، و ليس هناك ديمقراطية يمكن ان تبى بشعارات إقصائة، كما قال يجب أن تتم عملية إزالة التمكن و محاسبة المفسدين من خلال العدالة أي ” بالقضاء” حتى لا يكون هناك مظلوما. ثم انتقال إلي الأزمة الاقتصادية و قال لدين رؤية لتخفيف الأزمات الاقتصادية، و نحتاج إلي التشاور فيها مع الحكومة، و أن طموحنا هو تغيير الوضع المعيشي إلى وضع تتوفر فيه كل الخدمات دون الحاجة للوقوف في صفوف لنيلها” و أضاف قائلا ” إن السودان يمتلك إمكانيات ضخمة، وحان الوقت الذي نتحدث فيه للآخرين عن مصالحهم معنا في شراكة لخدمة الجميع، موضحًا إن البلاد لا يمكن أن تستمر في تسول الآخرين”. يعتبر دكتور جبريل إبراهيم أول قيادي في الحركات يقول أنهم يمتلكون تصورا لحل المشكل الاقتصادي، لكنه ربط ذلك بالحوار مع الحكومة. لأن المشكلة التي تواجه الساحة السياسية هي غياب المشروعات السياسية، إذا كانت مشاريع للأحزاب بصورة منفردة أو من خلال التحالفات التي تنفض و تؤسس متأثرة بالأحداث الجارية. و الديمقراطية تؤسس علي حوار الآراء و المبادرات التي تقدم من الأحزاب و المؤسسات الأكاديمية و مراكز الدراسات و البحوث و لا تفرض فرضا من قبل أي مؤسسة أو شخص كان.
و يقول دكتور جبريل ” أن حل الأزمات السودانية سيكون بأيدٍ سودانية، ونريد أن نتحد من أجل حل الأزمة الاقتصادية بأسرع ما يمكن، غض النظر عن موقعك في الحكومة”. و هي دعوة للمشاركة الجماعية من خلال تقديم مبادرات تسهم في الحل. لكن هناك قوى سياسية لا تريد مثل هذه المساهمات الجماعية هي تريد أن تكون الفترة الانتقالية محصورة علي قوى بعينها دون الآخرين. و نجد أن دكتور جبريل مستوعب لذلك عندما يقول “في ظل الصراع بين اليسار واليمين، بين اليساريين والإسلاميين، هذا الصراع ضيع السودان و نريد أن نخرج من دائرة الصراع والتنافس بين القوى السياسية على أساس إيديولوجي، إلى دائرة التنافس من أجل خدمة المواطن”.
هنا يصل دكتور جبريل لكبد الحقيقة أن الصراع الأيديولوجي بين اليمين و اليسار و خاصة الحزب الشيوعي و الإسلاميين يعد سببا مباشر في إرباك الساحة السياسية، و لاسيما أن الانقلابين في 1969م و 1989م نتاج لهذا الصراع العقيم القائم علي الإقصاء و العزل السياسي. و الحزبان الأيديولوجيان في حاجة لمراجعات فكرية حقيقية و ليست تصريحات و شعارات زائفة بهدف التأكيد أنهما قد قبلا الديمقراطية كنظام للتداول السلمي للسلطة، و العمل علي المحافظة عليه، كما أن الحزبين هما اللذين يعملان من أجل اختراق المؤسسة العسكرية، و تكوين خلايا تابعة لهما داخل المؤسسة.
أن المناورة لعدم أجراء مراجعات فكرية تنشر يكونا مايزالان يستبطنان المؤامرة من أجل تخريب الديمقراطية في أي وقت تكبر خليتيهما داخل المؤسسة العسكرية.
بدوره، قال نائب رئيس الجبهة الثورية مالك عقار، إن تنظيمات الثورية جاءت إلى الخرطوم لتنفيذ اتفاق السلام، دون تغيير شيء في الدولة السودانية، موضحًا أن تواجدهم في الداخل لخدمة وحدة السودانيين وإبرام المصالحات وتحويل طاقة الحرب إلى طاقة موجبة لتنفيذ اتفاق السلام “.و أضاف قائلا ” إن جيوش تنظيمات الجبهة الثورية سيتم دمجها في الجيش السوداني لصالح بناء جيش مهني قومي متنوع، مؤكدًا على أن جيوش التنظيمات “لم تأتي لغزو الخرطوم”.
و هنا عقار يحاول الرد علي منتقدي الحكم الذاتي للمنطقتين، و اعتبروا أن المطالبة بالحكم الذاتي تعد تمهيدا لخطوة أخرى لفصل المنطقتين مستقبلا، لذلك يحاول نفي ذلك بتأكيدهم علي وحدة السودان و دمج جيوش الحركات في الجيش السوداني، حتى ينفي الاتهام، و رغم الموقف من اتفاق جوبا لكنه يعد خطوة في طريق السلام يحتاج إلي مزيد من الجهد و دخول الحركتان الباقيتان خارج الاتفاق الانضمام إليه عبر الحوار المفتوح. و نسأل الله حسن البصيرة.
زر الذهاب إلى الأعلى